Cherreads

Chapter 6 - الفصل السادس : لعبة الصمت

لعبة الصمت"

كانت الأمطار تتساقط خارج نوافذ الأكاديمية، وتقرع الزجاج بإيقاع ثابت يشبه التنبيه.

ديفد جلس في زاويته داخل قاعة الدراسة، لا يتكلم. لا يتحرك أكثر من اللازم. لا يُبدي اهتمامًا بشيء.

لكنه كان يراقب.

كل شخص.

كل نظرة.

كل فعل، وكلّ غفلة قصيرة في وجه أحدهم.

**

(هذا العالم مبنيّ على الطاعة… والمراقبة.

أقلّ حركة خاطئة تجعلهم يشكّون بي.

لذا، أول خطوة للبقاء: لا أُلفت الانتباه.)

**

لم يكن عليه أن يكسب أحدًا.

ولا أن يشرح نفسه.

فقط أن ينجو.

أن يمرّ في الممرات دون أن يُستوقف،

أن يحضر الدروس دون أن يُسأل،

أن يتدرّب دون أن يلفت نظر الأستاذ.

**

هذا وحده… صعب بما فيه الكفاية.

**

مرّت الأيام الثلاثة التي تلت قتاله مع ليون ببطء قاتل.

لم يقترب منه أحد.

حتى من كان يتعامل معه سابقًا باحتقار… الآن بات يتجاهله تمامًا.

كأن وجوده صار شيئًا يجب تجنبه، لا مواجهته.

**

لكن ديفد لم يكن يائسًا.

بل كان يخطط.

كل دقيقة تمرّ، كان يستخدمها لجمع التفاصيل التي كتبها هو بنفسه في الرواية، لكنّه الآن يراها من الداخل… من زاوية الناجي.

**

جلس في المكتبة ذات صباح، يراجع خريطة الأكاديمية القديمة.

الخريطة لم تكن تُستخدم رسميًا منذ سنوات، لكنها أظهرت له شيئًا مهمًا:

نفق قديم تحت المبنى الغربي، مهجور، استخدمه ديفد الأصلي في الرواية لتهريب مخطوطات السحر المحرّم.

**

(إذا ساء الوضع… يمكنني الهرب منه.)

(لكن ليس الآن. الهرب يعني إعلان الانهيار. والوقت ما زال مبكرًا.)

**

رفع رأسه، ولاحظ أن أحد الطلاب كان يراقبه من بعيد.

أخفض نظره بسرعة، ثم نهض وخرج.

**

(هل كان يتجسّس علي؟

أم هي مجرد مصادفة؟)

**

الشكّ… كان يزحف ببطء إلى كل شيء.

لم يكن بحاجة لأعداء جدد.

كان العالم نفسه عدوه الأول.

**

عاد إلى غرفته في عنبر النخبة، وأغلق الباب بهدوء.

جلس على سريره، وتنفّس بعمق.

**

(الآن، ما أعرفه:

المجلس لا يثق بي، لكنه لا يستطيع قتلي بسبب دعم العائلة. الطلاب يخافون مني، وهذا جيد… لكنه سيف ذو حدين. الأساتذة يراقبون، وأي انزلاق صغير قد يفتح فمي على الحفرة. البطل لم يظهر بعد… وهذا يريحني مؤقتًا.)

**

فرك جبينه بتعب.

**

(سأقسم خطتي لثلاث مراحل:

تثبيت سلوكي الطبيعي أمام الجميع. جمع الموارد – معرفة، تحالفات محتملة، طريق هروب. إذا ظهرت أي تهديدات جديدة… أكون مستعدًا نفسيًا وسحريًا.)

**

أخذ قلمًا وكتب في دفتره الصغير:

"النجاة ليست فضيلة. إنها ضرورة.

الخداع… ليس ضعفًا. إنه السلاح الوحيد لمن لم يُخلق بقوة."

. أغلق الدفتر ببطء، ثم أطفأ الضوء وذهب للنوم 

كان الصباح بارداً، والرياح تهب عبر النوافذ المفتوحة في الطابق الأعلى للأكاديمية.

ديفد كان يقف وسط الطلاب في الساحة التدريبية المفتوحة، يراقب من بعيد وهو يحاول تحليل الوضع.

هذا اليوم، بحسب البرنامج الأكاديمي، هو أول اختبار عملي في التحكم بالمانا.

اختبارٌ علني، يقف فيه الطلاب أمام الأساتذة والمجلس، ليظهروا مهاراتهم أمام الجميع.

**

(هذه ليست معركة… لكنها ليست لعبة أيضًا.)

(الفشل هنا يعني المزيد من الانتباه غير المرغوب… وربما أسوأ.)

**

وقف الأستاذ أرنولد في منتصف الساحة، بيديه عصا سحرية طويلة ووجه خالٍ من التعبير.

"اسمعوا جيدًا. اليوم لن يكون عن القوة فقط. التحكم هو أساس السحر. إن لم تعرف كيف تُوازن طاقتك، فلا حاجة لأن تكملوا دراستكم هنا."

**

بجانبه، وقف أحد أعضاء المجلس – السيدة فيرنا.

كانت امرأة طويلة القامة، بشعر فضي وجلد شاحب، تنظر إلى الطلاب كأنهم حشرات تُفحص تحت عدسة مكبرة.

عيناها الحادتان توقفتا للحظة على ديفد، قبل أن تتحرك بعيدًا.

**

"اختبار اليوم بسيط، لكنه سيكشف نقاط ضعفكم."

قالها أرنولد، وهو يشير بيده إلى مجموعة من البلورات الموزعة على الأرض.

"ستقف كل مجموعة أمام بلورة، وتُفرغ طاقتها فيها تدريجيًا. البلورة مصممة لامتصاص الطاقة حتى حد معين. تجاوز الحد، يعني كسرها… وفشلكم."

**

تقدّم الطلاب ببطء نحو البلورات.

ديفد وقف في مكانه، ينتظر حتى يتجمع الباقون ويختاروا مواقعهم.

(كل حركة محسوبة. لا أريد أن أكون أول من يتحرك… ولا آخر من يبقى.)

**

حين حانت لحظته، مشى نحو إحدى البلورات الواقعة في طرف الساحة.

وقف أمامها، يراقب انعكاس وجهه على سطحها الشفاف.

**

(المانا لدي ضعيفة، لكنني أعرف كيف أخدع النظام. المفتاح ليس في القوة… بل في التحكم.)

**

رفع يده ببطء، واستشعر تدفق المانا داخله.

كان أشبه بشريان متحجر، بالكاد يسيل فيه الدم.

**

(بطيء.

هادئ.

لا تفقد التركيز.)

**

بدأ البلورة تتوهج ببطء تحت أصابعه، وشعر الطلاب حوله يراقبون.

نظراتهم ليست إعجابًا.

إنها خليط من الفضول… والخوف.

**

"تابع، كورماستون."

صوت أرنولد جاء من الخلف، ناعمًا بطريقة مزعجة.

"لا تخيّب آمالنا المعتادة."

**

أغمض ديفد عينيه.

كلماته لم تؤثر فيه.

كان مركزًا على هدفه الوحيد:

(اجعل التوهج مستقرًا. لا تُسرف، ولا تُظهر ضعفًا. كن عادياً.)

**

على الجانب الآخر من الساحة، كانت مجموعة من الطلاب تتحدث بصوت منخفض:

"هل رأيت كيف تغير؟"

"نعم، لكنه ما زال كورماستون… مهما فعل."

"لن يطول الأمر حتى ينكشف."

**

(الهمسات لا تهم. النتائج هي التي تهم.)

**

بعد دقائق طويلة، توقّف. البلورة أمامه توهجت بلون ناعم، لكنها لم تنكسر.

خفض يده، ونظر إلى أرنولد.

"انتهيت."

ابتسامة قصيرة ظهرت على وجه الأستاذ.

"أخيرًا… شيء طبيعي منك."

**

(هذه ليست إشادة. لكنها ليست اتهامًا أيضًا. جيد.)

**

بينما كان الطلاب يتناوبون على البلورات، وقف ديفد بعيدًا، يراقب الآخرين.

بعضهم أخطأ، وكسر البلورة فورًا.

البعض الآخر كان بطيئًا، لكن مستقرًا.

**

ثم جاء دوره ليون.

الطالب الذي هزمه في القتال قبل أيام.

**

رفع ليون يده، ولم تستغرق البلورة سوى لحظات قبل أن تبدأ بالتوهج بشكل كامل، لكنها لم تنكسر.

وقف هناك بثقة، كأنه يعلم بالضبط كيف يُسيطر على تدفق طاقته.

وحين انتهى، استدار ونظر إلى ديفد مباشرة.

**

لم يقل شيئًا.

لكن عينيه تحدثتا بما يكفي:

"أنا هنا. وأنا أراقبك."

بعد انتهاء اختبار البلورات، تفرّق الطلاب ببطء في أروقة الأكاديمية.

الوجوه كانت مرهقة، والبعض يبتسم بنجاحٍ مُزيّف، وآخرون يحاولون إخفاء انكسارهم.

لكن ديفد لم يكن منهم.

**

كان يسير وحده، كعادته، خطواته هادئة كمن لا ينتظر أحدًا.

مرّ بجوار الجدار الحجري الذي تعلّق عليه عادةً نتائج التقييم، لكنه لم يتوقف. لم يكن ينتظر تقديرًا.

هو يعرف موقعه جيدًا في هذا العالم:

مكان الظل. حيث لا أحد يريد النظر، لكن الجميع يخشى التقدّم نحوه.

**

وفي انعكاس الزجاج بجانبه، لمح وجهًا مألوفًا.

آيلا فريموند.

لم تقل شيئًا، لكنها كانت تنظر إليه نظرة طويلة، متأنية… مختلفة عن تلك النظرات السابقة التي كان فيها محض هدف للاحتقار.

**

نظرة شخص لا يفهم… لكنه بدأ يشك.

**

ديفد توقّف للحظة. لم يستدر، لكنه قال بهدوء:

"لم أعتقد أنك ما زلت تراقبين."

ردت بصوت خافت، كمن لا يعني أن يُسمع:

"لا أراقبك، كورماستون.

لكنني لا أريد أن أُفاجأ بك في ظهري ذات يوم."

**

ابتسم ابتسامة خفيفة.

"من الجيد أنك تتوقعين الأسوأ. العالم هنا لا يمنح مهلة ثانية."

**

سكتت. ثم قالت:

"أنت تتحرّك… بطريقة مختلفة.

كأنك تمشي فوق الجليد، لكنك تعرف أين لا ينكسر."

**

لم يعلّق.

**

(هل هي تتوقع شيئًا؟ لا، ليست متأكدة. لكن الشعور يتنامى. يجب أن أكون أكثر حذرًا.)

**

وقبل أن تغادر، أضافت:

"أنت تحاول النجاة… لكنك لست الوحيد."

**

لم يفهم الجملة فورًا.

لكن شيئًا فيها… بقي يتردّد داخله كصدى بعيد.

**

في مساء اليوم نفسه، عاد ديفد إلى عنبره.

وحين دخل غرفته، لاحظ أن أحدًا فتح النافذة. لم تكن الريح، إذ كانت مغلقة بإحكام في الصباح.

لكن الأغرب… أن على مكتبه كانت ورقة صغيرة، مطوية بدقة.

فتحها ببطء.

لم تكن موقعة.

كانت تحتوي فقط على عبارة واحدة:

"ما كُتب لا يزال يُعاد… لكنك لم تكن ضمن الخطة."

**

تجمّد.

(ما معنى هذا؟ من يعرف؟

أهي مزحة؟

أم… تلميح من داخل الرواية نفسها؟)

**

جلس ببطء.

ارتجف أصبعه للحظة قبل أن يمسك بالقلم ويكتب في دفتَره:

"أحدهم يراقب.

أحدهم يعرف أنني خرجت عن النص.

لكن من؟ المجلس؟ الطلاب؟ أم… شيء آخر؟"

**

لم يكن يشعر بالخوف.

كان يشعر بنوع من التحذير… كأن العالم الذي صاغه بنفسه، بدأ يخرج عن سيطرته.

**

(هل هناك من يُعيد ترتيب الحبكة؟

هل هناك كاتبٌ آخر… خلف الستار؟)

**

فجأة، طُرق الباب.

بهدوء.

ثم دخل الطالب المكلّف بالمراسلات.

سلّمه ظرفًا مختومًا بختم مجلس الأكاديمية.

فتح ديفد الظرف.

وقرأ بصمت.

**

"ديفد كورماستون،

تُستدعى لحضور طقوس اختيار المندوب الليلي.

الحضور إجباري.

المكان: الدائرة السفلية – قاعة الأختام القديمة.

التوقيت: بعد غروب شمس الغد."

**

تمتم ديفد لنفسه:

"الدائرة السفلية… لم تُفتح منذ أكثر من خمسين سنة."

**

وفي الرواية التي كتبها… لم يكن هناك شيء اسمه "المندوب الليلي".

**

. رفع عينيه نحو النافذة المفتوحة.

. وفي البعيد، خلف الظلال المتشابكة، بدا له أن هناك من يراقبه

كان الظرف لا يزال على الطاولة.

الختم الأحمر عليه جاف، متشقق قليلًا كأنه صُنع منذ زمن ونُسي في الظلال.

"الدائرة السفلية – قاعة الأختام القديمة."

عبارة واحدة… لكنها كافية لتُقلب الداخل رأسًا على عقب.

**

لم يكن هذا موجودًا في الرواية.

لا في السيناريو الأصلي، ولا حتى في المسودات المحذوفة.

ولم يكن ديفد ينسى شيئًا كتبه.

**

(إما أن هذا عنصر جديد تم إدخاله إلى العالم…

أو أن هناك طبقة من الأحداث لم أكن أعلم بوجودها وأنا الكاتب.)

**

جلس على كرسيه، وتنفّس ببطء.

الهدوء مهم. التفكير أهم.

ما يحدث ليس مجرد اختبار.

**

(استدعاء خاص من المجلس… في توقيت غير مألوف… وفي موقع مهجور.)

**

"الدائرة السفلية" كانت مصطلحًا نادرًا، يذكره الطلاب الضعفاء كتحذير ساخر فيما بينهم، وكأنها أسطورة مرعبة لا يصدقها أحد.

يُقال إنها تقع تحت الأكاديمية مباشرة، حيث طُبقت أولى التجارب الفاشلة لدمج المانا البشرية مع الطاقة الشيطانية خلال الحرب الأولى.

لكن لم يكن هناك تأكيد رسمي.

**

في الرواية، لم تُذكر إلا مرّة واحدة، وبشكل عابر.

**

(كان كورماستون الأصلي يعرف عن هذا المكان؟

أم أن هذا موجه لي أنا… لأني خرجت عن النص؟)

**

قام من مكانه وبدأ يتحرك في الغرفة الصغيرة، ذهابًا وإيابًا.

صوت المطر لم يتوقف منذ البارحة.

كأن شيئًا يرفض التطهّر.

**

على الجدار، خريطة صغيرة للأكاديمية القديمة.

حدّق فيها طويلاً، ثم سحب قلماً وبدأ يحدد المسار الأقرب إلى الباب الحجري الذي سمع عنه ذات مرة في محادثة بين أستاذين غاضبين.

**

(قاعة "الأختام القديمة" كانت تُستخدم قبل خمسين سنة لاختبارات العزل السحري.

ثم أغلقوها بعد حادثة اختفاء ثلاثة طلاب… رسميًا، بسبب "خلل في التوازن السحري".)

**

لكن غير الرسمي؟

الهمسات التي تتردد في أروقة المكتبة، والتي لا تُسجل في كتب الأكاديمية، كانت تقول إن المكان لم يُغلق لأنه خطر… بل لأنه شاهد.

**

(شاهد على ماذا؟

وهل هذا "الاستدعاء" مجرد طقس رمزي؟

أم هو اختبار… أو فخ؟)

**

الأسوأ من كل ذلك… أنه لا يستطيع الرفض.

الدعوة صريحة: الحضور إجباري.

وهو يعلم تمامًا ما يحدث لمن يتجاهل أوامر المجلس.

**

(إذا تأخرت، قد يسحبونني بالقوة… أو ما هو أسوأ:

يعتبرونني عنصرًا غير مستقر… ويُلغى دعمي من العائلة.)

**

في اللحظة التي يحدث فيها ذلك، يكون موته مجرد إجراء إداري.

**

وقف أمام المرآة.

نظر إلى وجهه.

شعره الأبيض الطويل كان لا يزال مبللًا من رطوبة الجو، وعيناه الأرجوانيتان بدتا أكثر اتساعًا في الضوء الخافت.

الندبة عند عينه اليسرى كأنها تبتسم بسخرية.

**

لم يكن يملك رفاهية الخوف.

كان عليه أن يتصرّف.

**

أخرج من صندوق صغير تحت السرير عباءة سوداء بسيطة، لا تحمل شعارات ولا أختام.

ارتداها بصمت، وخبأ تحتها خنجرًا صغيرًا محفورًا عليه تعويذة إغلاق مانا.

**

(لن أستخدمه إلا إذا اضطررت…

لكن لا أحد يدخل الظل أعزل.)

**

ثم أخذ نفسًا عميقًا.

فتح الباب.

خرج إلى الممر.

كان الظلام قد بدأ يهبط، والطلاب في طريقهم إلى النوم.

الأكاديمية صارت أهدأ… لكنها لم تكن أهدأ مما في داخله.

**

لم يكن يسير نحو اختبار.

كان يسير نحو شيء… مجهول.

ومع كل خطوة، كان الصوت الداخلي يتردد:

(ابقَ حيًا. لا تُخطئ. لا تُصدق أحدًا.)

كانت الأرض تُصدر صوتًا مكتومًا تحت قدميه، كلما نزل خطوة جديدة في السلالم الحجرية المؤدية إلى الطابق السفلي.

الهواء كان أثقل.

ليس بسبب الرطوبة، بل لسبب لا يُفسَّر.

كأن هناك شيئًا… ينتظر منذ قرون دون أن يُلمس.

**

مرت دقائق لم يُقابل فيها أحد.

لا حُرّاس.

لا طلاب.

ولا حتى سحر استشعار.

الطريق كان مقفرًا لدرجة مُقلقة.

**

(لو أرادوا التخلص مني، فهذا مكان مثالي.

لا شهود.

لا أصوات.

ولا خروج.)

**

لكن الغريزة كانت تقول شيئًا آخر.

هذا ليس فخًا.

إنه اختبار.

**

وعند نهاية الدرج، وقف أمام بابين حجريين عظيمين، كلّ منهما يحمل رسمًا دائريًا محفورًا بأدق التفاصيل.

دوائر متشابكة، تشبه خريطة لمانا غير مفهومة، لكنها ليست من اللغة الأكاديمية المعتادة.

في المنتصف، كان هناك تجويف دائري صغير.

**

(مفتاح؟

كلمة سر؟)

تقدّم ببطء، ووضع كفه على النقطة المركزية.

لحظة صمت.

ثم بدأت الخطوط تُضيء بخفوت… تراقص الضوء عليها مثل لهيب خافت.

ومع كل توهج، شعر بوخزة خفيفة في صدره.

**

(المانا… تستجيب؟)

ثم، دون إنذار، فُتح البابان.

لا بأصواتٍ عظيمة، ولا بانفجار، بل بهدوء ثقيل، كأن ما خلفهما لا يريد أن يُكتشف.

**

تقدّم.

ووجد نفسه داخل قاعة دائرية ضخمة، بلا أعمدة.

الجدران مغطاة بنقوش غامضة، تُحاكي أنماطًا لم يرَها في أي مخطوطة من قبل.

وفي منتصف القاعة، سبعة أشخاص يرتدون عباءات سوداء واقفون في دائرة.

لم يُظهِر أحدهم وجهه.

لكن من وقفت في المنتصف، بصوتها الهادئ والبارد، قالَت:

"تأخرت، ديفد كورماستون."

**

(فيرنا… عضو المجلس. لم تكن مجرد إشراف رسمي، إذًا.)

**

لم يجب. فقط وقف على حافة الدائرة.

ثم رفعت إحدى الشخصيات يدها وقالت:

"هل تعرف ما هذا الطقس؟"

أجاب ديفد دون تردد:

"لا."

سكتوا.

كأنهم كانوا ينتظرون منه أن يكذب. لكنه لم يفعل.

**

ثم قالت أخرى، بنبرة أكثر حدة:

"ولا كتبت عنه في أي من دفاترك؟

أو رواياتك؟

أو… خيالاتك المسمومة؟"

**

(هذا السؤال… غريب.)

(هل يلمّحون؟)

(لا. هذه مصادفة… أو استفزاز.)

**

"لم أكتب شيئًا عن هذا الطقس. ولا أعرف ما الغاية منه."

**

فجأة، تحرك واحد منهم واقترب من منتصف الدائرة.

ثم رفع عصاه، ورسم رمزًا في الهواء.

الرمز كان معقّدًا. يشبه نمط ختم طرد… لكن مع اختلاف في الطبقات السفلية.

ديفد لم يتعرف عليه فورًا.

لكن بعد ثانية، شعر بقشعريرة.

**

(هذا… ليس ختم مانا تقليدي.

إنه رمز لعقد… لكنه ليس بين أشخاص.

بل بين شخص… وشيء.)

**

قال أحدهم، بصوت أقدم من أعمارهم الظاهرة:

"في كل جيل، نختار واحدًا. ليس ليكون الأقوى، بل ليكون الوسيط."

صمت.

ثم أكمل:

"الوسيط لا يحمل السلطة… بل يحمل العبء."

**

ديفد لم يردّ.

كان يراقب.

(ما معنى "وسيط"؟

ما الذي يجري فعلًا؟)

**

فيرنا تقدّمت خطوة وقالت:

"نحن لا نمنحك شيئًا. لا نُكرمك.

نحن نُحملك رسالة.

عليك أن توصلها حين يحين الوقت."

"وإلى من؟"

"إلى من لا يعرف أنه المفتاح."

**

صوت آخر قال:

"الذين يولدون بالمانا لا يختارون قدرهم.

لكن بعضنا… يُجبر على أن يذكّرهم."

**

(هذه ليست طقوس قوة.

إنها… تمهيد لشيء.)

(أكبر من الأكاديمية. أكبر من المملكة.)

**

فجأة، انطفأت الأنوار من حوله، واشتعلت دائرة مانا حمراء تحت قدميه.

شعر بطاقة تخترق جلده، لا تؤلمه… لكنها تُراقبه.

واحد منهم قال:

"حين تخرج من هنا، لن تكون كما كنت.

ليس لأنك تغيرت… بل لأن العالم بدأ يتغيّر من حولك."

**

تداخلت الأصوات.

ثم اختفى كل شيء.

**

. وعاد الظلام

لم يكن الليل في الأكاديمية كما اعتاده ديفد.

كأن الضوء تغير، أو أن الجدران صارت تُصدر صدى أعمق من المعتاد.

حتى الصمت… بات يحمل كلمات غير منطوقة.

**

عاد إلى غرفته دون أن يُوقفه أحد.

لم يُسأَل أين ذهب، ولم يُعاقب على خروجه الليلي، رغم أن الطقس الذي حضره كان طقسًا سريًا لم يُذكر في جداول الأكاديمية.

لكنه شعر أن كل من صادفه… عرف.

**

الأستاذ أرنولد، الذي كان عادة ما يتجاهله، نظر إليه طويلاً هذا الصباح وهو يدخل القاعة،

ثم قال بصوت خافت، لا يكاد يُسمع:

"اقترب الوقت."

ديفد لم يرد.

لكنه سمع الطلاب حوله يتحدثون عن شيء لم يكن في جدول الدروس:

"الرقصة الطويلة."

**

(الرقصة الطويلة… الفصل السابع عشر من الرواية الأصلية.

أحد أكثر الفصول تعقيدًا، وأول مشهد تنكسر فيه الحبكة.)

(لكن لم يكن من المفترض أن نصل إليه بعد. لا بهذه السرعة.)

**

في الرواية، كانت "الرقصة الطويلة" طقسًا اجتماعيًا ضخمًا يُقام مرة كل بضع سنوات داخل قاعة الأكاديمية العليا، بحضور الأمراء، النبلاء، رؤساء العائلات، والأساتذة الكبار.

كان الهدف منه، رسميًا، اختبار قدرة الطلاب على الاندماج في الحياة السياسية.

أما واقعيًا؟ فكان المكان المثالي لتبادل التهديدات الخفية، تكوين التحالفات، وتثبيت الطبقية.

وفي ذلك الفصل، ولأول مرة، يلتقي البطل مع شخصياتٍ من العائلات الكبرى…

ويكسر التوازن.

**

لكن ديفد كان يعلم أن تلك الرقصة كانت بداية الانهيار.

بداية تمرد البطل، وبداية موت ديفد الأصلي.

**

(وهذا يعني أن البطل سيظهر.)

(أو أنه ظهر… لكنه لم يُعلن بعد.)

**

خرج بعد الظهر إلى ساحة التدريب، يُراقب بصمت الاستعدادات المبكرة.

الطلاب الكبار يتدرّبون على الرقص بالسحر، ونقل الحركة عبر المانا.

البعض كان يُستدعى لتجريب الملابس الرسمية، والبعض الآخر يُجهّز كتيبات "نسب العائلات".

كل شيء كان يحدث مبكرًا جدًا.

**

(هل قام أحد بتسريع الفصول؟

هل أنا من تسببت بهذا… أم هناك من يُعيد ترتيب الرواية خلفي؟)

**

مرّت آيلا من جانبه دون أن تلتفت.

لكن ديفد لمح شيئًا في يدها:

بطاقة ذهبية تحمل ختم الأكاديمية الرسمي.

**

(دعوة. وصلت الدعوات، إذًا.)

**

في المساء، حين عاد إلى غرفته، وجدها هناك:

على سريره، بطاقة سوداء، محفورة بخيوط من المانا.

ليست كدعوات الآخرين.

كانت مختومة بختم العائلة الملكية.

**

(في الرواية… لم يُدعَ ديفد كورماستون من قبل الملكيين.

فقط من قبل أسرته.)

**

فتح البطاقة.

كانت مكتوبة بخطٍ متقن:

"إلى ديفد كورماستون،

يُرجى حضور الرقصة الطويلة ممثلًا لعائلتك،

ومندوبًا عن الدائرة السفلية."

**

العبارة الأخيرة… لم يكن لها وجود في النص الأصلي.

**

(مندوب عن الدائرة السفلية؟

هل هذا جزء من الطقس الذي حضرته؟

أم أنهم استخدموه لتوريطي؟)

**

جلس على الكرسي.

فتح دفتره الصغير، وكتب:

"الأحداث تتسارع.

الرقصة كانت من المفترض أن تكون لاحقًا… لكنها الآن قادمة.

البطل سيظهر.

ديفد الأصلي يُفترض أن يموت بعد هذا الحدث بخمسة فصول.

وأنا؟

ما زلت ألعب بشفرة بين الأضلاع."

**

الظلال على الجدران كانت تتراقص مع ضوء المصباح.

لكنها بدت أكثر ثقلًا… كأنها تملك نوايا.

**

دُق الباب.

فتح، ليجد فتاة صغيرة من الخدم، تحمل صندوقًا مغلقًا.

"أُرسل من الأكاديمية.

ملابسك الرسمية للرقصة، سيدي."

**

سيدي.

الكلمة خرجت من فمها كجدار عازل بينه وبين العالم.

أخذ الصندوق بصمت.

أغلق الباب.

وجلس أمامه.

**

(في الرواية… لم يكن ديفد ضحية فقط.

هو نفسه أشعل النيران الأولى.)

(فهل أنجو بتكرار أفعاله؟

أم أن نجاتي… تبدأ بكسر السيناريو نفسه؟)

الكاتب /

🗺 خريطة العالم في "مانا الظلال"

⚜ 1. مملكة إيرثفال العُظمى (أرض العرش)

العاصمة: نيفال أورث

تقع في قلب المملكة، تحوي عرش التوازن وأكاديمية المانا الأولى. مقسمة إلى طبقات مركزية تُعبّر عن النظام الطبقي حرفيًا:

القبة الذهبية (للعائلة الملكية وكبار النبلاء) القوس الفضي (العائلات العشر الكبرى والمبعوثين) الحلقات السفلية (الأكاديميات، الأسواق، العامة)

السمة الجغرافية: مركز العالم المعروف، تتقاطع فيها خطوط المانا الكبرى. السلطة: الملك والسلالة الحاكمة، وأعضاء مجلس التوازن السحري.

🛡 2. الأقاليم الخمسة للمملكة

أ) إقليم الشمال – جبال فورنغار

موطن عائلة آلدوفارين، المهيمنة على معادن المانا. بيئة قاسية ثلجية، تحوي منجم النبض الأسود، أقدم مصدر طبيعي للمانا المتجمدة. يقال إن الهاوية الأولى تكمن خلف الجبال – مصدر الوحوش المدمرة.

ب) إقليم الجنوب – أراضي نارينفال

منبع الزراعة والحياة… لكن خلف القرى، تنتشر الديانات القديمة المحرّمة. قبور الملوك الأوائل مدفونة هنا، ويقال إن طقوسًا ممنوعة تُمارَس في الخفاء.

ج) إقليم الشرق – الغابة الحمراء

مأوى للغموض، ويُقال إن المخلوقات الروحية القديمة تعيش فيه. يُشاع أن هناك بُعدًا آخر للمانا يمكن الوصول إليه عبر طقوس نادرة داخل الغابة.

د) إقليم الغرب – السهول المحروقة

كانت أرض حرب في الماضي، تحولت الآن إلى مخزن سلاح سحري ضخم. عائلة فريموند تسيطر عليه، وتقوم بتجارب لتحويل المانا إلى طاقة عسكرية.

هـ) الإقليم العائم – جزر إيفانتا

جزر طافية فوق بحر المانا، يحكمها مجلس غير معترف به. مركز لتجار السحر غير القانوني، والمرتزقة، والمخلوقات الهجينة.

🕯 3. الأراضي الرمادية (المناطق المحرمة)

لا تخضع لحكم المملكة، وتُحيط بها أساطير مخيفة. تضم:

الفراغ الساقط: منطقة مفقودة من التاريخ، يقال إنها سقطت من السماء. وادي الظلال السبعة: كل من يدخله يُقال إنه يرى "حقيقته الداخلية". مدينة الآثم الخالد: أطلال مدينة سقطت في بعدٍ سحري، يعيش فيها كائن يُلقب بـ"الكاتب النائم"

More Chapters