Cherreads

Chapter 40 - يوم0

(تكملة)

استمر نيكولاس و البقية بالسير بصمت، خطواتهم تئن تحت وطأة الثلج المتراكم. وراءهم، في حين بدأت معالم القرية تتلاشى،وسط الضباب البارد.

ضمت جيني كتفيها بذراعيها المرتعشتين من البرد، و التعب بدأ بالظهور على ملامحها،ثم قالت بصوت مرتعش"لماذا لم نأخذ،ذالك الشيئ الذي يدعى سيارة،كان سيكون افضل لنا"

اخذ نيكولاس بعض الوقت قبل ان يجاوبها قائلا"كنت اريد ان أخذها لكني وجدتها شبه محطمة،لا بد ان الامر له علاقة بتلك شاحنة."

احست جيني بالضجر،و قامت بعدها بتغطية وجهها بالكامل ما عدا جهة العينين لتبقى دافئة.

التف نيكولاس نحو جوزيف الذي كان قد استعاد القليل من عافيته قائلا"كم سيحتاج لنا من وقت للوصول؟"

رد عليه جوزيف و في نبرة صوته نوع من الخوف"يومين على الاغلب"

تنهد نيكولاس ببطئ،ثم قال بضجر و في داخل قلبه غضب و عدم صبر لا مثيل له"يومان...اللعنة هذا وقت طويل...الا يوجد طريق مختصر؟"

رد عليه جوزيف بسخرية ممزوجة بالقلق"ههه ما اخبرتك به هو الطريق المختصر بالفعل،من الافضل لك الصبر قليلا لأننا لازلنا باليوم 0"

التف نيكولاس مجددا للأمام دون نطق كلمة و ملامح القلق و الغضب واضحة على وجهه.

بعد مرور مدة من الوقت،شعرت جيني بالملل و الضجر من كل هذا،اقتربت نحو ايثان بهدوء و قالت له بهمس مرتجف"الديك اي خطة لإقناع نيكولاس عن غبائه هذا؟".

نظر اليها ايثان و في عينيه التعب،محركا رأسه ب"لا".

بقيت جيني تحدق به لعدة ثواني قبل ان تكلمه محاولتا خلق حديث معه"ا_ذا انت لا تستطيع الكلام؟"

رد عليها ايثان مؤشرا بإصبعه ب"نعم"

لتقول له بعدها و في وجهها علامات الاهتمام"عجيب!..لم أقابل أحدًا مثلك من قبل..لكن لماذا؟اليس لديك لسان؟لأنني اتذكر ان والدي قال لي اننا نستطيع الكلام بإستعمال السنتنا."

نظر ايثان اليها بإستغراب،قبل ان يخرج لسانه وهو يعبث به بطريقة مضحكة و كأنه يقول"ها هو ذا ما المشكلة فيه؟"

توسعت عينا جيني للحظة، قبل أن تنفجر ضاحكة رغم كل التعب والبرد، واضعة يدها على فمها كي لا يسمعها نيكولاس.

قالت وهي تهمس بمرح"توقف عن هذا،انت تبدو سخيفا هههههههه"

ظهرت ابتسامة صغيرة على وجه ايثان،قبل ان يبدأ بالضحك بدون صوت،متشاركا معها فرحتها.

قاطعهم نيكولاس قائلا بنبرة جدية نحو جوزيف سائلا اياه"الا توجد اي مباني قديمة او مكان صالح للعيش بالقرب من هنا؟"

"رد عليه جوزيف بنبرة ساخرة وفي وجهه التعب"لن نجد أي مأوى إلا حين وصولنا الى المدينة،فقط استمر في سيرك لا يزال ينتظرك طريق طويلللللل لكي تستمتع بهذا البياض الميت في كل مكان"

نظر نيكولاس إليه شزرًا، لكنه لم يرد. فقط زفر بقوة وأكمل المسير.

مرت الدقائق و الساعات ببطئ شديد، والثلج لم يتوقف عن السقوط،مهمى كانو يتقدمون لم يلاحظ احد بهم اي تغيير بالطريق،فقط طريق شبه مسطح مليئ بالتلج،يتكرر مرارا و تكرارا.

فجأة اشرت جيني نحو شيء بعيد بين الضباب قائلة بصوت مبحوح"ا_انظرو"

التف الجميع نحو المكان التي اشرت نحوه،ليتفاجئو بمعالم كوخ ما من بعيد.

ليسأل نيكولاس جوزيف و في صوته مزيج من الغضب و الاستغراب"الم تقل لي انه لا توجد اي مباني بالقرب من هنا؟"

رد عليه جوزيف هو الاخر و في وجهه ملامح الاستغراب"اجل لقد قلتها،وليس لدي اي ذكرى لهذا الشيئ"

التف نيكولاس ناحية الكوخ قائلا"بسرعة،سوف نبيت بذالك الكوخ اليوم"

ليبدئو بالمشي نحو الكوخ،أملين ان يكون مكانا امنا للعيش.

بعد دقائق من المشي،بدأت تتضح معالم المبنى ببطئ لهم.

كوخ خشبي قديم،نصفه مدفون تحت الثلج، ونوافذه مغطاة بالألواح المهترئة.

قال جوزيف وهو يلهث"لا اتذكر اني رأيت هذا مكان من قبل"

رد عليه نيكولاس "هذا يعني انك غبي،هيا بنا سيكون هذا مكان مبيتنا لليلة"

تبادل الجميع نظرات مرهقة، ثم ساروا معًا نحو الكوخ، تتبعهم الرياح الباردة كأنها ترفض منحهم لحظة راحة.

دفع نيكولاس الباب بكتفه، فصرّ الباب بصوت مزعج قبل أن ينفتح ببطء كاشفًا عن الداخل المظلم والغابر في الغبار.

قالت جيني بينما تتقدم مسرعتا لداخل"هاهااااا اخيرا مكان دافئ"

اغلق نيكولاس الباب بصعوبة ثم قال بعد ان حمل قطعة خشبية"فل تجمعو الخشب لكي نشعل النيران"

و دون كلام كثير بدأ الجميع بالبحث عن اي شيئ صالح للإشتعال.خشب.كراسي مكسرة.قوارير بلاستيكية.

و قامو بجمعها معا تحت فتحة صغيرة بالسقف، حيث يمكن للدخان أن يخرج دون أن يملأ الكوخ.

نزع نيكولاس حقيبته من على ضهره فاتحا اياها،لكي يخرج بعدها ولاعة صغيرة،اقترب من كومة المواد المشتعلة، ثم أشعل النار.منيرا ظلام المكان،و نازعا برودة الاجواء بالجوار.

جلس الجميع امام النيران،و الراحة و السكينة تشق اوجههم البشوشة.

جلست جيني قرب النيران وهي تمد يديها نحوها قائلة"آآآه... شعور لا يوصف."

قال جوزيف بعد ان تمدد بالكامل على الارض ممسكا بطنه بإنزعاج"تبا لك تلك الضربة الا الان تسبب الما في بطني"

رد عليه نيكولاس بنبرة جافة"انت من رفضت بالبداية،ليست مشكلتي"

رد عليه جوزيف بإنزعاج"تبا لك"

اتأكئ نيكولاس على الجدار قائلا قبل ان يغلق عينيه"اخلدو الا النوم،ستحتاجون الا كل قطرة من طاقتكم للمشي غدا"

اغلق الجميع أعينهم ببطء، وأصوات الرياح العاتية تتسلل عبر شقوق الكوخ القديم.

كن النوم لم يأت بسهولة بنسبة لبعض الاشخاص.

بينما كان الجميع نائما،جالسا في عالمه الخاص،كانت جيني تمشي بحذر بالكوخ محاولتا عدم اصدار اي ضجيج.

"اين بإمكاني ايجاد فتحة او شيئ كهذا...لقد وعدني القمر بأنه سيزورني هذا اليوم،لا يمكنني تركه،خاصة في هذا الوقت"

بحثث في كل مكان،و كل شبر،بينما تتاولا الثواني و الدقائق،لكنها لم تجد شيئا سوا فتحات صغيرة بين الجدران.

شعرت باليأس و الاستسلام،كونها لن تستطيع مقابلة القمر لهاته الليلة،توقفت فجأة في احد الغرف الذي بدا عليه انه كان حماما بالسابق،كان ضيقا و تفوح منه رائحة كريهة خارجة من مرحاض القرفصاء المتسخ،و في احد جدرانه كان هناك مرآة متوسطة الحجم،فيها القليل من التشققات لكن لا يزال بإمكانك رأية شكلك بطريقة وضحة فيها.

اقتربت جيني من المرأة بهدوء،ناظرتا لإنعكاسها بينما تلعب بشعرها.

ثم همست و في وجهها ابتسامة خفيفة"انا ابدو جميلة اليوم،هههههههه"،لتبقى على نفس الحالة لبعض من الوقت.

و على غير المتوقع لمحت جيني من انعكاسها ظهور نورٍ خفيف من الجدار امامها،لتلتف بفزع بسرعة ناحيته و على وجهها معالم الفزع و الاستغراب.

تشكل الضوء كخيطٍ رفيع، نحيف كالشعرة، ممتدٍ بشكل عمودي في منتصف الجدار المتشقق قبل ان يبدأ بالتمدد بهدوء للأسفل و كأنه بوابة لبعدٍ اخر،مطلقا صوتا خافتا مرافقا لتوسع،أشبه بهمسة شق الزجاج.

في غضون لحظات،تحولت لنافذة بشكل كامل،حوافها مشعة بخفوت،بداخلها ظلام مليئ بالنجوم،وكأنها بوابة للفضاء الخارجي.

بقيت جيني متجمدتا في مكانها و ملامح الذهول متشكلةُ على ملامحها،نظرت لليمين،ثم لليسار قبل ان تبدأ بالمشيئ بخطوات بطيئة نحو النافذة.

لم تلمسها،بل اكتفت بالنظر اليها من مختلف الزوايا،و الفضول و الاستغراب مسيطر على مشاعرها.

وبينما كانت تحدق في ذلك الظلام المليء بالنجوم، حدث ما لم تتوقعه.

في أعماق تلك النافذة، بدأت النجوم بالتناثر ببطء، وكأنها تتفسح لإفساح المجال لشيءٍ أعظم.

نقطة الضوء التي كانت تلمحها من بعيد بدأت تكبر... وتكبر... حتى لم يعد بالإمكان تجاهل شكلها الدائري، المضيء، والمهيب.

قالت جيني و ملامح السعادة و الاندهاش ترتسم على وجهها"القمر!!"

رد عليها بصوته المهيب من خلف النافذة"أُوهْ، جيني يا قُرَّةَ عَيْني، ظَنَنْتُ أَنَّكِ قَدْ نَسِيتِينِي."

ردت عليه جيني و الابتسامة تشق وجهها"بالطبع لن انساك،كيف لي ان افعل ذاك؟"

رد عليها القمر"وَلِأَنِّي أَعْرِفُ مَا فِي قَلْبِكِ، فَلَا دَاعِيَ لِلْأَعْذَارِ فِي حُضُورِي، وَإِنِّي أَسْأَلُكِ بِتَوَاضُعٍ عَنْ حَالَةِ نَجْمَتِي الصَّغِيرَةِ."

ردت عليه"إني بخير طالما اراك بخير...بما انك هنا،فما هو الشيئ الذي اردت ان تريني اياه؟"

بقي القمر صامتا لوهلة قبل ان يبدأ بدق زجاج النافذة بخفة قائلا"آسِفٌ عَلَى إِتْعَابِكِ، وَلَكِنْ هَلْ يُمْكِنُكِ فَتْحُ النَّافِذَةِ لِي، لأَنَّنِي لا أَسْتَطِيعُ فَتْحَهَا مِنْ هُنَا؟"

لم تتردد جيني لثانية واحدة،و قامت بفتح النافذة بسرعة.

فور انفتاح النافذة قال القمر بنبرة مليئة بالاحترام و الادب"آمل ألا تمانعي"

قبل ان يبدأ بالتحول الا شعاع من نور ابيض جذاب،ساحبا نفسه نحو الجهة اليسرى من وجه حيني.

فور أن لمس ذلك النور وجه جيني،بدأت تشعر بتشويش غريب في الجهة اليسرى من وجهها،,بدأت بفقدان توازنها ببطئ بينما تمسك الجهة المشوشة من وجهها.

سقطت جيني على ركبتيها ببطء، وعيناها تومضان بعدم اتزان،بينما النور الأبيض ما يزال يسحب نحو وجهها.

همست بصوت مرتجف، بالكاد مسموع"ما_ما الذي يحدث لي؟؟"

لكن لم يرد عليها احد،فقط صمت يسيطر على المكان،تاركا النور يقوم بما يفعله.

بعد عدة ثواني بدأ النور بالتلاشي بسرعة،مخفيا معه النافذة من خلفه.

في الوقت التي كانت جيني جالستا على ركبيتها ممسكتا بالجزء الايسر من وجهها،و قلبها يدق و كأنه على وشك الخروج من مكانه.

نهظت من مكانها بصعوبة،بينما تلهت من التعب،نظرت نحو مكان النافذة لتجد الجدار عاد الا طبيعته.

التفت نحو المرآة بتعب،محاولتا معرفة ما الذي حدث لها بالضبط.

كان الجهة التي تغطيها بيدها تنير بنورٍ غريب،من ما اثار استغرابها،بدأت برفع يدها بهدوء من على وجهها و النور يصبح اقوى فأقوى الا ان...

قناع ابيض كالتلج،منيرٌ كالنجوم،يغطي نصف الوجه ويترك النصف الآخر مكشوفًا،و في مكان عينها التي تحول سوادها الا لون ازرق خلاب.

بقيت جيني متحجرتا في مكانها من الصدمة،تلمس القناع بإستغراب و ذهول"ما_ما هذا الشيئ؟"

فجأة سمعت صوتا في دماغها بنفس مواصفات صوت القمر"أُعَبِّرُ لَكِ عَنْ أَسَفِي الْعَمِيقِ، عَلَى مُفَاجَئَتِكِ هَكَذَا، فَقَدْ ظَنَنْتُكِ مُسْتَعِدَّةً لِتَلَقِّي الْهِدِيَّةِ"

ردت عليه جيني و على مرأاها الاستغراب"ما الذي فعلته بي؟ما هذا القناع؟"

رد عليها القمر"اعرف ان خيوط القلق تشد على قلبك،و ان هناك الف سئال يتراقص في ذهنك،لكن فل تريحي قلبك،فقد اعطيتك عيني كهدية لصدقاتنا الدائمة،من الان سترين ما اراه و سأرا ما ترينه "

شعرت بمزيج من القلق و التوتر من كلامه لكن تقتها به خففت من تلك المشاعر.

قالت له بهدوء"لم افهم كيف ترا ما اراه و انا ارا ما تراه؟ليس هنالك اي تغيير"

رد القمر عليها بنبرة حنونة"اغلقي عين الواقع،لكي تري من خلال عيني..."

لم تفهم جيني قصده بعين الواقع،لكن كان هناك شعور غريب في داخلها،يجذبها لإخفاء عينها اليمنى.

رفعت جيني يدها بتردد،قبل ان تقوم بوضعها على عينها اليمنى.

لحظة ملامسة يدها للعين، انطفأ صوت الرياح، وصمت العالم من حولها كما لو أن الزمن توقف.

في تلك اللحظة،وجدت نفسها في عالم غريب، تلال خضراء ظاهرة على طول مرأى العين،السماء كانت زرقاء على غير العادة،كانت الالوان باهتة،و الرُأية مشوشة،و من بعيد كان هناك كهف يبدو عليه القدم في وسط المكان.

جيني نظرت حولها بدهشة،و شعور من الغرابة و الراحة يتسلل الا صدرها.

قالت بإندهاش"جميلللللللللل"

فجأة سمعت صوت القمر لكنه لم يكن امامها واضحا كالمعتاد،بل من القناع،و كأنه اندمج معها و اصبح هو القناع"مَرْحَبًا بِكِ فِي أَرَاضِي الذَّاكِرَةِ، هُنَا حَيْثُ تَتَجَمَّعُ ذِكْرَيَاتُكِ السَّعِيدَةُ، هُنَا حَيْثُ تَجِدِينَ الرَّاحَةَ وَالسَّعَادَةَ مِنْ أَوْسَعِ أَبْوَابِهَا"

تقدمت جيني بين الحقول، تخطو بخفّةٍ كأن الأرض نفسها تهمس تحت قدميها.

شقت الابتسامة وجه جيني من روعة المنظر،ثم سقطعت على الارض العشبية الدافئة بينما تتلف يمينا و يسارا،مستمتعتا بدفئ العشب و جماله.

قالت و في صوتها مزيج من السعادة و الإسترخاء"لم استمتع هكذا ابدا في حياتي...هاته افضل هدية حصلت عليها منذ ولادتي هههههههه"

رد عليها القمر"أَعْطَيْتُكِ مَا اسْتَحَقَّ قَلْبُكِ،يَا نَجْمَتِي الصَّغِيرَةُ"

أغمضت جيني عينيها، تشعر وكأن النسيم يُداعب روحها لا جسدها فقط،مسترخيتا لمدة من الوقت.

تقلبت جيني على يمينها،فاتحتا عينينها بهدوء،لتجد الكهف مقابلا لها من بعيد.

بقيت مركزتا فيه لمدة من الوقت قبل ان تقول بصدمة بعد ان استوعبت شيئا ما"مهلا لحظة!ذالك منزلي!"

رد عليها القمر مأكدا على كلامها"نَعَمْ... ذَاكَ هُوَ مَنْزِلُكِ، كَمَا نَسَجَتْهُ ذَاكِرَتُكِ،كُلُّ مَا أَحَبَّهُ قَلْبُكِ،مُتَجَسِدٌ فيِ هَذَا المَّكَانِ"

نهظت جيني من على الارض،و بدأت بالركض مسرعتا نحو الكهف،شعرها يتطاير مع الرياح الباردة و الابتسامة تشق وجهها.

عند عتبة الكهف،فتحت الباب بهدوء كاشفتا عن مدخل البيت.

كان مكانا واسعا ذو جدرانٍ حجرية و ارضية مفروشة بقماش قديم،طاولة و كراسي بالمنتصف و مدخلنات لمكانين مختلفين في حواف الكهف،واخد مغطا بقماش خفيف،و الاخر لديه باب خاص به،و سرير في اخر المكان،مكان صغير لكنه واسع من نظر جيني.

تقدّمت جيني بخطى مترددة إلى الداخل، عيناها تجولان في المكان مسترجعتا ذكرياتها الحميمية.

قالت بنبرة فيها طياتها الحنية"لم يمر وقت طويل منذ تركت المنزل،لكنني اشتقت اليه..."

همس القمر من القناع، صوته يلامس أذنيها"كُلُّ مَا يَغِيبُ عَنْ يَدَيْكِ،سَيَنْجَذِبُ إِلَيْهِ قَلْبُكِ كَالْمَجْنُونِ."

بقيت جيني تمشي بالغرفة،بينما تتوقف من الحين للأخر مسترجعتا ذكرياتها عن المكان.

وصلت الا سريرها و اتكأت عليه و في وجهها تعابيرالإستغراب و القليل من العبوس.

لاحظ القمر ذالك و قال مستغربا"لِمَ فِي عَيْنَيْكِ الحُزْنُ؟هَلْ أَوْجَعَتْكِ الذِّكْرَى، أَمْ أَنَّ الحَنِينَ ثَقَلٌ لا يُحْتَمَل؟"

ردت عليه بصوت خافت، وعيناها تتأملان سقف الكهف"كل شيئ جميل كما اخبرتك،لكن...اذا كان هذا المكان فيه جميع ذكرياتي السعيدة،اذا اين والدي؟"

...بقي القمر صامتا لعدة لحظات،و كأن الكلمات خانته،من ما اثار استغراب جيني التي اكملت كلامها قائلة"م_ما الامر؟"

ثمّ تنهد بخفة،ثم بدأ بالكلام و كأنه يحاول تجنب سئالها"يَا أَسَفَ القَلْبِ، لَيْسَ كُلُّ مَا نَرْجُوهُ يُجَابُ، فَفِي هَذَا العَالَمِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ أُنَاسٍ غَيْرُنَا هُنَا."

ارتسمت ملامح الحزن على وجهها،لكن القمر حاول تنسيتها الموضوع قائلا بسرعة"يا الاهي!اليس ذالك كتاب الشعر الذي تقرئيينه!؟"

التفت جيني ناحية الطاولة،لتجد كتابا جديدا فوقها،نهظت من مكانها و بدأت بالمشي ناحيته،الا ان مرت من الباب الخشبي الذي بالجدار.

رجعت للوراء بضعة خطوات ناظرةً نحوه بنوع من الفضول و الاستغراب"انها غرفة والدي،لا اتذكر اني قد دخلتها منذ رحيله"

مدت يدها لكي تفتح الباب،لكن و في لحظة واحدة صرخ القمر بنبرة غاضبة"أَزِيلِي يَدَكِ مِنَ البَابِ."

سحبت جيني يدها بفزع،بينما بدأ قلبها بالخفقات بقوة.

تنحنح القمر بخفة،خاجلا من نفسه ليبدأ بالتكلم بنبرة عادية بعيدا عن عادته"اعذريني من فضلك،فقد كان الامر سيكون خطيرا عليك...قد نسيت ان اقول لك ان هذا الباب هو بوابة لأرض النسيان، ذكرياتك المنسية،كل ذكرا سيئة اردتي نسيانها او لم تريدي نسيانها ستجدينها هناك،لذالك عليك تجنب دخوله"

جيني ظلت تحدّق في الباب،و كأنه كان يناديها،ثم همست بخفّة"ارض النسيان..."

ثم قالت بعد ان سقطت فكرة ما على رأسها"اذا كان هناك كل ذكرياتي المحذوفة،اذا لا بد ان الذكرى الاولى لا تزال موجودة،و هي شكل امي بالطبع"

و قبل ان يتسنى للقمر الرد عليها،تحت جيني الباب بسرعة، مدفوعةً بفضولٍ لم تستطع كبحه. وفي لحظة، سُحبت بقوة غامضة إلى داخل فراغٍ مظلم،بينما تسقط في الفراغ و صرخاتها تتعالا بالمكان.

بعد مرور عدة دقائق من سقوطها،اصطدمت بالارض بقوة،لكنها لم تتلقا تلك الاضرار الكبيرة.

حاولت الوقوف على قدميها بينما تمسك رأسها بألم.

نظرت على الامام و هي بالارض ثم فتحت عينينها،لتجد نفسها في ممر ضيق، جدرانه من نفس حجر الكهف الذي تعيش فيه،و في كل متر من الممر هناك باب مرقم،لتدرك فورا انها وصلت اخيرا.

لأرض النسيان

بدأت جيني بالتقدم بالممر بخطوات متزنة بينما تنظر الا الابواب المرقمة بتركيز.

كانت الارقام عشوائية بالكامل،باب يكون فيه رقم 4،و الذي بعده يكون رقم20.

تكلم القمر بتوتر بعد استوعابه انهم وصلو للمكان""جِينِي، مِنْ فَضْلِكِ، دَعِينَا نَرْجِعْ، فَالمَكَانُ لَيْسَ آمِنًا"

لكن جيني لم تهتم لكلامه،كل ما كان يهمها بالوقت الحالي هو شيئ واحد،وهو ايجاد اي ذكرى لأمها.

فتحت اول باب امامها بحزم،لتجد نفسها عادت لداخل الكهف نفسه،من ما اثار استغرابها،سائلتا القمر"مذا؟... لقد عدنا لنفس المكان،من المفترض ان تكون هاته ذكريات منسية"

بقي القمر صامتا لمدة قبل ان ينطق بحزن"فقط امعني نظر بالمكان"

فجأة لاحظت جيني نسخة منها و هي طفلة،جالستا فوق السرير بينما تلعب ببعض الالعاب القديمة.

نظرت ميرا اليها بإندهاش قائلتا"اليست تلك انا!؟".

لم يرد عليها احد،حتى و رغم كلامه بصوت مرتفع بدت النسخة و كأنها لم تسمعها.

على حين غِرّة،فتح باب غرفة الذي ادخل جيني لهذا العالم بالبداية،ليخرج منه رجلٌ نحيل البنية،ذو ملابس صيفية،اصلع بالجهة العليى من رأسه،بعينين حمراوتين و كأنه كان يبكي لساعات.

قالت جيني مباشرة من بعد ان رأته بفرحة"ابي!"

حاولت التقدم و معانقته لكنها قامت بتخطيه فقط،وكأنها شبح غير مرئيي بالنسبة لهم.

تكلم القمر بهدوء فاقدا بهاراته الشعرية من فمه"نَحْنُ دَخِيلَانِ عَلَى هَذِهِ الذِّكْرَى، فَأَحْدَاثُهَا قَدْ حَدَثَتْ بِالفِعْلِ، وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ أَيِّ شَيْءٍ، نَحْنُ مُجَرَّدُ مُتَفَرِّجِينَ."

فجأة و من دون مقدمات قام الاب بتوجيه لكمة عنيفة على ابنته مسقطا اياها على الارض،من ما اثار فزع جيني.

قال الاب بنبرة مليئة بالحزن و الجنون"لماذا؟لماذا تركتيني يا زوجتي الحبيبة؟لماذا.لماذا.لماذا.لماذا"

استمر في جنونه تحت انظار جيني المصدومة من ما تراه و نسختها الباكية الملقية بالزاوية.

وضع الاب يديه على وجهه محاول تهدئة نفسه لكن جنونه كان واضحا للجميع.

قالت جيني بفزع"هذا ليس والدي!!ابي لم يفعل اي شيئ كهذا في حياته"

رد عليها القمر بحسرة"يا ليت"

اكمل الاب كلامه بينما يضرب الجدار بعصبية مجنونة قائلا بنبرة مكسورة"لقد كان من المفترض ان نربيها كلانا،انت من اردتيها من كل اعماقك،وقد ساعدتك لتحقيق امنيتك،لم يتوجب عليك الموت...ليس بسبب امنيتك نفسها"

اخذ بعدها نفسا عميقا ثم بدأ بالمشي خارجا من الكوخ جيني الصغيرة تبكي بحرقة بالزاوية.

وقفت جيني تحدق بالمشهد،بوجه مجمد من هول ما رأته،فلم يكن هذا ابوها الحنين التي لطالما تذكرته.

ثم قالت يملئه الصدمة و عدم التصديق"هذا ليس والدي،لا اتذكر اي شيئ عن كون والدي هكذا!متأكدة ان هناك خطأ"

رد عليها القمر بنبرة هادئة لكنها جادة بينما انهمرت دمعة من القناع"كل ما نتذكره ليس الضرورة ان يكون الحقيقة،فنحن احيانا نحاول نسيان الاشياء السيئة من حياتنا لكي نستطيع الاستمرار،و انت يا نجمتي صغيرة،قد نجحتي بذالك بتوفق"

ردت عليه جيني في حين كانت تنظر نحو نسختها الصغيرة"ل_لا تكن سخيفا،لا بد انها فقط ذكرى واحدة كان ابي فيها غاضبا لهذا السبب قمت بنسيانها،فلو كان الامر متكررا لم اكن لأنساه بالتأكيد"

لتقوم بعدها بالرجوع ادراجها،الا الممر مجددا،مقفلتا الباب بالقوة.

وقفت للحظة، تستجمع أنفاسها المرتجفة،قبل ان تبدأ بالمشي مجددا بالممر حائرتا من اي باب ستدخل،بالوقت الذي يحاول فيه القمر اقناعها بالرجوع.

توقفت أمام باب خشبي مهترئ من خلفه إضائةُ خافتة، كُتب عليه رقم 0.

وضعت يدها على مقبض الباب،ثم فتحته ببطئ،كاشفتا عن نفس المكان السابق،من ما اثار استغرابها قائلتا"انحن نعود لنفس ذكرى ام مذا؟"

رد عليها القمر بنبرة فيها القليل من الحزن مع القليل من نبرته الشاعرية القديمة"أَوَلَمْ يَكُنْ مَنْزِلُكِ هُوَ مَكَانَ ذِكْرَيَاتِكِ؟ فَكَيْفَ تَرْجِينَ وُجُودَ ذِكْرَيَاتٍ غَيْرِهِ وَأَنْتِ تَعِيشِينَ فِيهِ مُعْظَمَ حَيَاتِكِ؟"

كان الأب يجلس على الكرسي نفسه، أمام الطاولة الخشبية الصغيرة،مشابكا يديه بقوة،بوجهٍ متعب،و عينان غائرتان ثم جاء صوت صراخ من بعيد، صوتها هي... صغيرة.

ركضت جيني الصغيرة نحو والدها ممسكة برسمة صنعتها،قائلةً بحماس"ابي!ابي!انظر،رسمت ماما!"

رفع الأب عينيه ببطء نحوها، لم يكن هناك دفء ولا حنان، فقط تعب... ثم تمتم بنبرة حادة"انها لا تشبهها...انظري كيف رسمتيها،انها قبيحة عكس امك الحقيقية"

مزق الورقة من يدها دون تفكير، ورماها أرضًا.

جيني الكبيرة شهقت بصوتٍ خافت وهي ترى الصغيرة تحدق في الرسم الممزق، وعيناها تمتلئان بالدموع دون أن تبكي...

تكلمت جيني بنبرة مليئة بالحسرة"لماذا يفعل هذا؟!ما مشكلة هذا الشخص!؟"

رد عليها القمر محاولا تهدئتها"هذا تأثير العالم الجديد،جيني...الحزن...و الجنون،لقد كانت لديه طموحات كبيرة،حياة ليعيشها،لكنه لم يكن مستعدا لتحطمها في اي وقت،و هذا ما ادا لجنونه خاصة مع تغير حياته بشكل مفاجئ.. "

فجأة و من دون سبب وجه الاب ضربة لطفلة مسقطا اياها على الارض بينما يتكلم بنبرة مليئة بالعصبية و الجنون"لا تجرئي مجددا على تشويه وجه عزيزتي برسمك هذا اتسمعين؟"

لم تستطع جيني تصديق ما تراه،لم ترد تصديق اي شيئ من هذا.

خرجت من الباب بسرعة،لتبدأ بعدها بالدخول لمختلف الغرف،واحدتا تلو الاخرى بهستيرية،باحثَةً بجنون عن ذكرى واحدة... واحدة فقط تُثبت أن أباها لم يكن وحشً.

لكن في كل باب،و في كل ذكرى،لم يكن الاب سوا مخبولا،مريضا سيطر عليه الجنون.

الا ان فتحت جيني احد الابواب،العرق كان يتصبب من كل انحاء جسمها،و الحزن و الصدمة يهيمنان على ملامحها.

كان الكهف مجددا،مثل كل الذكريات،و نسختها بعمر 16 واقفة في منتصف البيت تنظر الا الارض دون ان تظهر ملامحها،في الوقت الذي كان الاب امامها يصرخ بجنون كعادته،من ما جعل جيني تظن انها ذكرى اخرى لجنون ابيها،من ما جعلها تلتلف نحو الباب لتجرب بابا اخر...لكن الامر كان مختلفا هاته المرة

تكلم القمر و في نبرة صوته الجدية التامة"توقفي...هاته الذكرى مهمة"

التفت جيني بإهتمام،ظانتا انها قد تكون ذكرى جيدة لأبيها.

بعد مدة من صراخ الاب المعتاد،التف بعصبية،محاولا الرجوع الا غرفته.

رفعت نسخة جيني نظرها نحوه مظهرتا وجهها المليئ بالكدمات،و عينيها المليئة بالكراهية و الغضب.

وفي لحظة واحدة،قامت بإمساك سكينٍ كان ملقيا على الطاولة.

و من دون تردد،بدأت بطعن الاب عدة طعنات بالظهر.

واحدة تلو الاخرى.

تحت أنظار جيني الأصلية، التي تجمدت في مكانها كليًا، وقد انكمش بؤبؤا عينيها حتى أصبحا نقطتين صغيرتين، من شدّة الصدمة والذهول.

لم تستطع الحراك، ولا حتى التنفس بانتظام... وكأن قلبها نسي كيف ينبض للحظات.

سقط الاب على الارض،غارقا في دمائه بعد ان فارق الحياة بشكل كامل.

في الوقت التي كانت فيه نسخة جيني،تنظر الا الاب بإحتقار،بوجهها الملطخ بالدماء،بينما تكبر ابتسامتها بالتدريج،لتبدأ بالضحك بشكل هستيري مليئ بالجنون.

ليعلق القمر على هذا المشهد قائلا"وَهُنَا وَصَلْتِ لِحُدُودِكِ، وَسَيْطَرَتْ عَلَيْكِ لَعْنَةُ الْعَالَمِ، وَلَوْ لِلَحَظَاتٍ."

فجأة توقفت النسخة عن الضحك،و نظرت نحو جثثة ابيها الملقية على الارض،بوجهٍ خالٍ من اي تعبير،قبل ان تبدأ الدموع تنهمر من وجهها،وكأنها استوعبت ما قامت به لتو.

رمت السكين على الارض،و بدأت بجر جثة ابيها نحو غرفته،فتحت باب الغرفة،و تركته ملقيا على الارض مقفلتا الباب من ورائها.

نظفت المكان من الدماء،و نظفت نفسها بعد ذالك.لتجلس بعد ذالك فوق سريرها ناظرة بالارض بوجه خال من اي تعابير.

وفي الوقت نفسه كانت جيني جالسة على الارض واضعةً يدها فوق رأسها،و ملامح الصدمة تسيطر على كل شبرٍ من وجهها،غير مستوعبة لكل ما يحدث.

همست بصوت خافت بالكاد يسمع"أَنَا... قَتَلْتُه...؟"

مرت لحظات طويلة من الصمت، لا صوت فيها سوى دقات قلبها، التي أصبحت ثقيلة مؤلمة، وكأن كل واحدة منها تطرق على ضميرها.

تكلم القمر محاولا التخفيف عنها"لَا دَاعِي لِلْحُزْنِ يَا نَجْمَتِي الصَّغِيرَةُ، لَقَدْ كَانَ رَجُلًا مَيِّتًا بِالفِعْلِ، هَذَا العَالَمُ قَدِ اسْتَهْلَكَهُ، وَكَانَ سَيَسْتَهْلِكُكِ لَوْ لَمْ تَقُومِي بِمَا فَعَلْتِ بِهِ فِي هَذِهِ اللَّحْظَةِ، مَا قُمْتِ بِهِ هُوَ الخِيَارُ الصَّحِيحُ."

ردت عليه جيني بصوت متردد مليئ بالاستغراب والتردد"و لكن_ولكن،اتذكر انه قد خرج للمدينة و اختفى،اتذكر تلك الليلة جيدا،كيف؟كيف؟" 

لتقاطع نسختها كلامهم،متكلمتا مع نفسها بنبرة استغراب"هممممم،لقد تأخر والدي بالعودة...لقد بدأت اقلق عليه"

فور سماع جيني لكلمات نسختها،اتسعت عيناها في ذهول،مستعوبتا الامر اخيرا،لتقول بعدها في ذهول ممزوج بالإستغراب"لقد نسيت؟بجدية كيف لهذا ان يكون ممكنا؟!"

رد عليها القمر بنبرة هادئة لكنها عميقة، مليئة بثقل الأسرار"لقد مررتي بصدمة كبيرة يا نجمتي الصغيرة،لدرجة ان دماغك لم يتمكن من احتوائها،مع كثر الصدمات و اقتراب الجنون من السيطرة عليك،قام دماغك بحركة دفاعية،و قام بنسيان كل لحظة سيئة في حياتك،و محاولة تبدليها بلحظات سعيدة بغية تحقيق الاستقرار النفسي،و هذا المكان كما ترين...هو ارض النسيان،المكان الذي انشئ لحمايتك من الجنون"

بقيت جيني جالستا في مكانها مرخيتا جسدها بنينما تنظر الا الارض و الصدمة واضحة على مرأها.

ليعم الصمت المكان لمدة من الزمن.

تنهد القمر بعمق قبل ان يبدأ بالكلام محاولا تنسية جيني كل هذا"اوه،كدت انسا،اظنني وجدت ذكرى لوجه امك،اتريدين الذهاب لرأيتها؟"

بقيت جيني صامتة لبرهة لكنها همست بصوت شبه مسموع"اجل..."

نهظت من على الارض،و خرجت من الغرفة،عائدتا الا الممر،بوجه عبوس،متقل بتقل الحقيقة.

استمرت بالمشي،دون النظر من حولها،تاركتا القمر ليقودها نحو الذكرى المقصودة.

توقفت فجأة عن المشي و رفعت عينيها لأمام،لتجد بابا ابيض كالتلج،ذو حالة جيدة وفي منتصفه رقم 7.

مدت جيني يدها نحو المقبض،فاتحتا الباب بهدوء،ليعترضها ضوء الشمس مباشرة.

وضعت يدها فوق عينيها لكي تحمي نفسها من اشعة الشمس،قبل ان تنظر للمكان.

...لقد كان سطحَ إحدى العمارات، متّسخًا بعض الشيء، تغطيه طبقة خفيفة من الغبار وأوراق الشجر الجافة التي حملها الهواء من مكانٍ بعيد. كانت الجدران المحيطة بالسقف قصيرة، وقديمة، تتقشّر منها الطلاءات البيضاء كأن الزمن قد عضّها بأسنانه، وتركها تنهار ببطء.

و في منتصف المكان...كانت هي،امها ملقية على الارض بجانب والدها،بينما جيني الرضيعة امام والدتها،تبكي بحرقة.

توسعت عينا جيني من الذهول،غير مستوعبة لما تراه.

بقيت تتقدم ببطئ و تردد نحو امها الملقية على الارض،و مع كل خطوة كانت ضربات قلبها تزداد اقوى و اقوى.

اخيرا...وقفت جيني امام امها الملقية على الارض،كانت امرأة جميلة، تحمل ملامح تُشبه جيني إلى حدٍّ يثير القشعريرة... كأن الزمان قرّر أن يعيد وجه الأم في ابنتها،شعرها كان طويلاً، كثيفاً بلون الليل الدافئ، تتخلله خصلات ناعمة مموجة، تتناثر حول وجهها كالهالة، تماماً كشعر جيني، لكن بلونٍ أعمق.

عندما رأت جيني أمها للمرة الأولى،غمرت مشاعر مختلطة جسدها كالعاصفة.

عيناها اتسعتا بالكامل، ثم بدأتا ترتجفان، وكأن المشهد الذي أمامها لا يمكن لعقلها تصديقه،عيناها انغمرتا بالدموع،ليس حزنا بل بسبب الفرحة المفاجئة.

كانت ملامح وجهها خليطاً من الصدمة، والذهول، والحنين الذي لم يُمنح يومًا فرصة للظهور،سقطت على الارض جنب والدتها،تحديدا مكان نسختها الرضيعة.

ناظرتا الا وجه امها المبتسم،السعيدة بولادة جيني.

قبل ان تقول الام بنبرة تعبة لكنها مليئة بالسعادة"طفلتي العزيزة...ولدتي لتو و انت بالفعل اجمل شيئ رأته عيناي بالفعل."

فور سماع جيني لهاته الكلمات،فاضت عيناها من الفرح،و كأن تلك الكلمات لمست قلبها عميقا،زارعتا شعورا بالانتماء و المحبة فيها.

غاصت جيني في صمت طويل، تحاول استيعاب كل تلك المشاعر التي اجتاحتها دفعة واحدة. شعرت بدفء غريب ينبعث من كلمات والدتها، وكأنها لأول مرة منذ زمن بعيد،تسمع صوتا محبا بصدق.

نظرت إلى الأم بابتسامة متكسرة، وهمست جيني بصوت متردد"كم اردت ان اراك يا امي،كنت اتمنى دائما ان تسنح لي فرصة مقابلك،لكنني ضننت ذالك مستحيلا،لكن الان ذالك المستحيل قد تحقق،و انا الان اراك،و اعرف كليا،بأنك احببتني بصدق"

اغمضت الوالدة و الابنة عينيهما نائمتان نومتها الاخيرة نومتهما الاخيرة مع بعضهما البعض،ممتنتان على هاته الهدية...و لو لفترة قصيرة.

وسط كل هذا همس القمر بصوت غير مسموع حتى بنسبة لجيني"هذا ما احبه فيك يا نجمتي الصغيرة،مهما كثرت الام و المعانات في حياتك،فذكرى واحدة سعيدة تكفي لإرضائك و زرع الابتسامة في شفتيك..."

فجأة بدأت جيني بسماع صوت نداء قوي"جيني!جينييييييي!"

فتحت جيني عينيها بهدوء،لتجد نفسها في وسط الكوخ القديم،و الجميع ملتف حولها.

تكلم جوزيف و في نبرة صوته القلق"يا فتاة ما الذي حدث لك؟لقد وجدناك في الحمام مغمية عليك،كنت على وشك الموت من البرد هناك"

بقيت جيني صامتتا لبرهة،بينما مسحت الدموع من عينيها،ناظرتا نحو يدها الملطخة بدموعها،قبل ان تقول بنبرة هادئة"لا تقلق انا بخير...حصلت فقط على هدية جميلة"

(العودة للقرية)

امام احد الاكواخ،في زاوية فارغة من الناس.

كان الرجل الذي كان يبيع ذالك الفطر الغريب(الفطر الي اكلته جيني بالفصول سابقة).

ساقطا على الارض،مملوئا بالكدمات،في الوقت الذي كان ماركوس واقفا امامه،ممسكا بفطر من الذي يبيعه.

ثم قال بنبرة هادئة"لا اتذكر رأية هذا الشيئ يباع بالجوار،ولا رأيتك انت كذالك"

رد عليه الرجل و في وجهه ابتسامة كبيرة"ما بك يا رجل؟انا مجرد بائع بسي_"

و قبل ان يكمل كلامه،سدد ماركوس ضربة قوية على رأسه،قبل ان يقول له بنفس النبرة"لم اسألك من انت،بل سألتك ما الذي يفعله هذا الفطر"

رد عليه الرجل بينما يرجع نظره ناحية ماركوس"لقد اخبرتك يا رجل عدة مرات،انه مجرد فطر يحقق لك السعادة و يحقق امنياتك لكنك تستمر بضربي"

رد عليه ماركوس"ذالك لأنني استطيع معرفة صدقك من كذبك،و اعرف انك كاذب بشكل كبير"

اخذ الرجل نفسا عميقا ثم رد عليه"حسنا،حسنا سأخبرك...هذا الشيئ الذي بيدك ليس فطرا...انه طفيلي."

قاطعه ماركوس قائلا"كيف ذالك؟"

اكمل الرجل كلامه"دعني اكمل يا ابله،(تنهد)عندما تقوم بأكل هذا الفطر فإنه لن يذهب لبطنك مباشرة، بل الا جهازك العصبي ... يزرع نفسه في أعماق دماغك وعند وصوله،و بسبب عدم توفره على افكار او احاسيس،فسوف يتخذ شكلا وهميا في دماغك،شخصية اخرى في نفس الجسد،و سيتحول بعدها الا اكثر شيئ انت مهووس به،،سواء كان جيدا او سيئا،او بشكل اوضح هلوسة واعية،و هنا يأتي الجزء الممتع،فإن كان المضيف مهووسا بشيئ سام و مضر له فيقوم الطفيلي بإلتهام عقله ببطئ،الا ان يسيطر على عقله بالكامل،و بالجهة المقابلة ان كان هوس الشخص شيئا جيدا،او يحبه بشكل مبالغ فيه لدرجة تمني وجوده،فتتجسد الهلوسة على شكله،مشكلتا اياه داخل دماغك"

بقي ماركوس صامتا لبرهة،قبل ان يقوم برمي الفطر و سحقه تحت اقدامه قائلا ببرود"عجيب،بعد سماعي لكلامك هذا،ذكرتني بشخص ما...لكن الجزء الاهم و الاوضح هنا،هو انك لست بشريا صحيح؟"

رد الرجل عليه و بوجهه تعابير صدمة مصطنعة"ما الذي تقوله؟"

رد عليه ماركوس"ما الذي تضن انني اقوله،تبيع طفيليات،تقوم بصنع هلوسات واعية للناس،مع احتمالية انها تستطيع السيطرة على ادمغتهم...لكن الشيئ الذي لم تتطرق اليه،هو مذا سيفعولن بعد السيطرة على المضيف؟...و هو بالطبع و مثل كل كائن حي بهذا العالم...الانتشار،و هذا هو الشيئ الذي انت تقوم به"

اختفت الابتسامة من على وجه الرجل و تظهر على وجهه ملامح القلق"لم اتوقع ان تعرف الامر بهاته السرعة..."

لم يكتر ماركوس الكلام،بل اكتفى بتسديد ضربة قوية ناحية رأس الرجل محطما جمجمته بالكامل،قاتلا اياه على الفور.

فتحت رأس الرجل،مظهرا دماغه المدمرة،المغلفة بشيئ ازرق منير كجذور النباتات.

نظف ماركوس يده بهدوء،قبل ان يحمل حقيبة الفطر التي كان الرجل يحملها،مبتعدا عن المكان بصمت.

(النهاية)

More Chapters